هل أخذ الشاطبي من كتب ابن تيمية رحمه الله مباشرة؟
أ.د. سليمان بن محمد النجران
الشاطبي عند وفاة ابن تيمية كان عمره حدود ثمان سنوات، أو أكثر بقليل، حسب الخلاف في ولادة الشاطبي، والشاطبي مغربي، لم يرتحل أبدا للمشرق، وابن تيمية مشرقي، لم يرتحل أبدا للمغرب، والمدة الزمنية محتملة لانتقال كتب ابن تيمية من المشرق إلى المغرب، فهل استفاد الشاطبي من كتب ابن تيمية مباشرة؟ هذا محتمل، لا سيما أن الشاطبي يتطلب دائما علو المصادر، ورفعة المراجع، وصفاء النظر، ونضج الفكر، وقوة الحجة بالبرهان، وهذا ما كان ظاهرًا وأصلاً، في كتابات ابن تيمية رحمه الله، مما يعني أنها محل طلب، وموقع نظر بالنسبة للشاطبي.
في مبتدأ الأمر، كانت فرضية استفادة الشاطبي من كتب ابن تيمية مباشرة، محل اختلاف بين المعاصرين؛ إذ استبعد الشيخ مشهور في تحقيقه للموافقات أخْذ الشاطبي مباشرة عن ابن تيمية من كتبه، فقال: "إننا نستطيع أن نقرر بكل طمأنينة أن ابن تيمية وابن القيم، لم يرد لهما ذكر ألبتة في جميع كتب الشاطبي المطبوعة، ولم أظفر بعد شدة بحث، وكثرة استقصاء، إلى ما يمكننا أن نجعل هذا اللقاء ثابتا، أو في حكم الواقع، ولم أعثر للشاطبي في كتابه هذا على ذكر للحنابلة، وقد صرح فيه (3/131) أن كتب الحنفية والشافعية كالمعدومة الوجود في زمانهم؛ فكيف بكتب الحنابلة؟.. إلى أن قال: "من خلال ما تقدم أستبعد صحة ما ذهب إليه سعد محمد الشناوي في كتابه (مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي) (1/150) عند كلامه على تأثر الشاطبي بمن سبقوه، قال ما نصه: "وقد تأثر الإمام الشاطبي بما جاء في مؤلفات من سبقه، وهو العز بن عبدالسلام، وابن تيمية!! وابن القيم!! والقرافي، ولهذا نجد كتابه مزيجا وتحليلا لهذه الآراء القيمة التي استقرت في عقولها نظرية المصالح المرسلة... وسألتُ شيخنا الألباني -حفظه الله- عن هذه المسألة؛ فأجاب بأنه لم يثبت عنده ولم يطلع على ما يسمح بالجزم أو باحتمال أن تكون اللقيا قد تمت بين الشاطبي وابن تيمية أو ابن القيم"[1].
فهذا الشيخ مشهور، وقبله الشيخ الألباني -كما نقل عنه- كلاهما، استبعد استفادة الشاطبي استفادة مباشرة من كتب ابن تيمية، وانظم إليهما الشيخ د.أحمد الريسوني، فقال في رده كلام المحامي الشناوي: "وقد وجدت الشاطبي -مرة واحدة- يقول: (قال بعض الحنابلة)، وذلك فيما يخص دعاوى الإجماع التي لا تثبت، ويستعملها بعضهم في قطع الطريق على البحث والمناقشة لبعض الأمور التي يدعي فيما الإجماع ولا إجماع، ومع هذا، فإني أستبعد أن يكون الشاطبي قد أخذ هذا عن مؤلف حنبلي مباشرة. والمستبعد أكثر أن يكون قد اطلع على بعض مؤلفات ابن تيمية أو ابن القيم، خاصة وأنه ليس من أصحاب الرحلات المشرقية، كما هو بشأن ابن العربي والطرطوشي مثلاً، اللذين ينقل الشاطبي عنهما كثيرًا، وكما هو شأن شيخه أبي عبد الله المقري، الذي حكى عن نفسه أنه: (لقي بدمشق شمس الدين بن القيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية)، ولكن هذا كله لا يفيد شيئًا في إثبات دعوى الدكتور الشناوي المحامي ولا حتى في (إثارة الدعوى أمام القضاء)"[2].
فصار لدينا ثلاثة: الشيخ الألباني رحمه الله، والشيخ مشهور، والشيخ د.الريسوني، نفوا استفادة الشاطبي المباشرة من كتب ابن تيمية، وكذا محقق الموافقات د.الحسين آيت الله سعيد، لم يصرح بنفي ولا إثبات.
وخالفهم ثلاثة آخرون: المحامي د.سعد بن محمد الشناوي، وقد سبقهم إلى ذلك، والشيخ د.بكر أبوزيد رحمه الله، ود.يوسف البدوي؛ فقرروا أن الشاطبي استفاد من كتب ابن تيمية مباشرة.
قال الشيخ د.بكر أبو زيد رحمه الله: "هذه إلماعة معتصرة عن هذا الإمام -يقصد الشاطبي- في حياته العلمية والعملية، وبتأملها يظهر جَليا نزعته التجديدية، ودعوته الإصلاحية -شأن كل مجدد ومصلح- وهي تشبه إلى حد كبير دعوة التجديد التي قام بها في المشرق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مع تباعد الدار، وأن ولادة هذا الإمام بعد وفاة شيخ الإسلام، وكل منهما لم يرحل قط إلى قطر الآخر، لكني وجدت أثارة من علم تدل على أن لشيخ الإسلام ابن تيمية صوتًا مسموعًا في غرناطة، ذلك أن الإمام الشاطبي قد نقل عنه في الاعتصام (1/356) قوله: (قال بعض الحنابلة..) وهو بنصه في كتاب ابن تيمية: (إقامة الدليل على بطلان التحليل) المطبوع ضمن: الفتاوى الكبرى (3/370)، وربما أن الشاطبي -رحمه الله- لم يُسَمِّه، ولم يسترسل بذكره والنقل عنه؛ اتِّقاءً لما وقع في الخلوف من عداوته، والنفرة منه"[3].
وبعد الشيخ بكر أبوزيد، أثبت د. يوسف البدوي استفادة الشاطبي من ابن تيمية، فذكر ثمانية أدلة تثبت ذلك، أورد في بعضها نقولات الشاطبي بالنص من كلام ابن تيمية في كتابه: (بيان الدليل على إبطال التحليل)، وفي بعضها توافق ألفاظ وكلمات، وتشابه في الأدلة في المسألة الواحدة؛ فالشاطبي استفاد من هذا الكتاب لابن تيمية، وربما استفاد من غيره من كتب ابن تيمية، ومن المعلوم أن شيخ الشاطبي أبا عبد الله المقري (ت 759ه) التقى بابن القيم، وكان معاصرًا له، ويحتمل أنه حمل جملة من كتب ابن تيمية إلى الأندلس؛ فاستفاد منها الشاطبي.[4]
أما الشيخ مشهور فتراجع عما قرره في الموافقات، من نفي استفادة الشاطبي من كتب ابن تيمية مباشرة؛ فأورد أحد عشر دليلًا على استفادة الشاطبي من ابن تيمية، بعضها نقولات بالنص من كتاب: (بيان الدليل) لابن تيمية، وبعضها بالمعنى، وبعضها توافق وتطابق لفظي، واستدلالي، وهي تشبه ما ذكره د.يوسف البدوي[5]، ثم كتب الشيخ مشهور بحثًا بعنوان: (الشاطبي حسنة من حسنات مدرسة ابن تيمية)[6]، يقرر فيه ما ذهب إليه هنا.
ولكن وصف الشيخ مشهور الشاطبي، بأنه حسنة من حسنات ابن تيمية، فيه مبالغة لا تخفى؛ فإن الشاطبي إمام مجتهد في الأصول، لم يكن منهجه في تقرير الأدلة وإقامتها كمنهج ابن تيمية؛ فهما، وإن اتفقا في نتائج كثيرة، إلا أن مقدماتهما مختلفة في بناء الأصول؛ فلكل إمام منهما منهج مستقل، وعندئذ ينتفي وصف الشاطبي، بكل إرثه وعلمه الطويل، وجهاده الفكري الشديد، بكونه نتيجة من نتائج ابن تيمية.
وإذا ثبت ارتشاف الشاطبي من معين ابن تيمية؛ فهذا يدل على علو المصادر البحثية عند الشاطبي؛ إذ تطلب كتب ابن تيمية، مع بعدها المكاني عنه، عذا من جهة، ومع قرب زمنه منه، وعادة في ذلك الزمان لا تصل الكتب بسهولة؛ فهذه جهة ثانية، ومع كون ابن تيمية له مواقف مشهودة مع الأشاعرة، والصوفية، وكان جل الأندلس أشاعرة، عندهم تصوف، مما يجعل إثارة الناس عليه محتملة؛ فهذه جهة ثالثة؛ فبالرغم من هذه العوائق مجتمعة، إلا أن الشاطبي تغلب عليها، واستفاد من علم ابن تيمية، بمهارة وحكمة ودقة عالية، أو دع في كتبه منها ما يراه أنه حق، دون إثارة، أو اضطراب، أو فتنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مقدمة الشيخ مشهور للموافقات 1/78
[2] نظرية المقاصد عن الشاطبي ص305
[3] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص305
[4] انظر: مقاصد الشريعة عند ابن تيمة ص505- ص517. د.يوسف البدوي. وانظر أيضا دراسة بعنوان: دراسة حول النقاشات المعاصرة المتعلقة بفرضية استفادة الشاطبي من ابن تيمية، للباحثة: سندس أبوناصر، طالبة دكتوراه، جامعة صقاريا، أقرت النتائج التي توصل إليها الدكتور: يوسف البدوي.
[5] انظر: مقدمة تحقيق الاعتصام للشيخ مشهور (1/9-80).
[6] البحث منشور في مجلة الأصالة عدد27.
انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.
انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.