كيف نقرأ فكر ابن تيمية معرفيًّا؟
د.عبدالله بن نافع الدعجاني
إذا أردنا أن نقرأ فكر ابن تيمية، ونُفسر آراءه، ونفهم موافقه العلمية، وإذا شئنا استثمار مواطن قوته، واستلهام رؤاه المنهجية، فلا بُد من تتبع نسقه المعرفي - والمراد بالنسق هنا: العناصر المترابطة المتفاعلة المتمايزة المكوِّنة نظامًا واحدًا- وهذا لا يتم إلا بتحليل علمي لمواقفه وأفكاره ومفاهيمه، والتقاط المفاهيم المركزية ذات القدرة على التفسير المنهجي، ثم إعادة تركيب وتأليف تلك المفاهيم، حتى نصل إلى المفاهيم المعرفية الكلية، الكامنة وراء ذلك التراث العلمي الهائل، المتنوع في المواقف والمسائل، التي يمكن نظمها وإعادة تركيبها بوساطة تلك المفاهيم المعرفية الكلية.
قد قُمْتُ في هذه الدراسة بتحليل تراث ابن تيمية، محاولا الوقوف على العلل العلمية التي يُعلل بها ، رابطاً بين نظائر المسائل والمواقف المشتركة في علة أو علل علمية متقاربة ، مُجرَّدًا بشكل واع من هذا الكم الهائل، من المسائل والمواقف والتفاصيل والحقائق ، أطرًا أو أنماطاً أو مفاهيم كلية .
في ضوء تلك المفاهيم المعرفية الكلية، ذات القدرة على تفسير النصوص، والواقع المكون من المواقف والمسائل ، شَيَّدتُ بِنَاءً جديدًا للبحث، يشتمل على عمليتي التحليل والتركيب، وتوليد بعض المفاهيم، وربما اكتشاف حقائق جديدة، وحل بعض المشكلات الفلسفية المعاصرة، التي تعن للباحث في الفكر والاعتقاد.
وتلك الطريقة المنهجية المختارة للبحث، منسجمة كُل الانسجام مع رؤيته المنهجية التي تنشد بناء نظريات علمية تُفسَّر فيها جزئياتها بردها إلى أصولها الكلية، فقد أكَّد على ضرورتها ، قائلا: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كُلَّيَّة تُرَدُّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم» (مجموع الفتاوى 19/ 203)، وفي موضع آخر وبالوضوح نفسه يشير إلى تلك المنهجية، قائلا : «إن معرفة أصول الأشياء ومبادئها، ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعًا، إذ المرء ما لم يحط علما بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حَسَكَة» (المصدر نفسه 10/ 368) .
فالبحث عن الأصول الجامعة ، والمفاهيم المركزية، لفهم طبيعة الأشياء وتفسير الحقائق، ضرورة منهجية وحاجة علمية، التزم بها ابن تيمية التزامًا صارمًا في نتاجه العلمي تقريرًا ونقدًا، وحاولت الالتزام بها في دراستي منهجه، مع الميل بها إلى النظر الكلي المناسب لطبيعة المنهج المعرفي، كل ذلك من أجل تفادي «الابتسار المعرفي»، والوقوع فيما أشار إليه ابن تيمية من «الجهل في الجزئيات»، و«الظلم في الكليات»، وحصول «الحسكة المعرفية القلقة»، الناشئة عن الحيرة والاضطراب في فهم حقائق الأشياء.
وقد أفضى بي هذا المنهج إلى القبض على الإطار المعرفي عند ابن تيمية المكون من ثلاثة مفاهيم كلية، تمثل المدخل لفهم المنهج المعرفي لديه ، وعليها يدور نسقه المعرفي، وهي كما يلي :
الـمفهوم الأول: الفطرة المعرفية
وهو مفهوم تأسيسي، إذ في إطار هذا المفهوم تتأسس المعارف البشرية، ويمكن من خلاله التَّعرف على وظائف النفس المعرفية العقلية والنفسية، ويُعدُّ هذا المفهوم مرجعًا ضروريًا يقينيا للمعرفة، منه يبدأ البناء المعرفي، وعنده يقف، وإليه يعود، سواءٌ أكان ذلك في النقد، أم في التقرير، أم في الحجاج العلمي، أم في المناظرات .
ويَتَضَمَّنُ ذلك المفهوم الكلي مفاهيم مركزية متعددة، سيأتي شرحها وبيان أثرها المنهجي - إن شاء الله - في صلب البحث، منها على سبيل المثال: «الشعور النفسي» «واليقين المعرفي»، «و الظواهر النفسية الفاعلة والانفعالية»، أو كما يسميها ابن تيمية بـ «الأمور الحسية الباطنة الوجدية»، ومثل فطرة العقل النظرية، وفطرته العملية.
وهذا المفهوم وإن كان أساسًا للمنهج المعرفي التطبيقي، إلا أنه يميل إلى النظرية أكثر من ميله إلى الإجراء، بعكس المفهوم التالي، إذ يهدف إلى وصف وتحديد جذور المعرفة داخل النفس البشرية، ولذلك كان هذا المفهوم حلقة الوصل بين المنهج المعرفي وعلم النفس، فمفهوم الفطرة وعلم النفس كل منهما يحاول تحديد الأدوات والقدرات الذاتية، التي تُمكِّن النفس البشرية من العلم بالأشياء، بمعنى آخر تحديد مسالك المعرفة ومنابعها، وهنا يلتقي المنهج المعرفي - باعتباره فطرة معرفية متعلقة بالنفس البشرية - مع علم النفس، لكن مع اختلاف بينهما في التحليل والهدف، فبينما يوغل علم النفس داخل متاهات النفس، يَتَيَقَّظُ المنهج المعرفي للواقع الموضوعي الذي تعيش فيه النفس، وفي الوقت الذي لا يهتم علم النفس بنتائج الاستدلالات وبراهينها، يهدف المنهج المعرفي إلى تحقيقها وضبطها.
الـمفهوم الثاني: الواقعية المعرفية
والمراد بها مراعاة الواقع والوجود باتزان، والواقع: إما أن يكون وجودا ماديَّا ، وإما أن يكون وجودًا رمزيًّا، والوجود المادي: إما أن يكون حاضرًا شاهدًا، وإما أن يكون غائبًا، وأما الوجود الرمزي فيتمثل في «النصوص اللغوية» باعتبارها رموزًا للأشياء، سواء أكانت ملفوظة أم مكتوبة.
فللواقع أهمية منهجية في فكر ابن تيمية النقدي، وإذا كان ذاك الواقع -سواء أكان شاهدًا أم غائبًا أم رمزيا - مثيرًا للإشكالات الفلسفية والفكرية، فهو عنده كاشف للحقائق الملتبسة، فمن خلال هذا المفهوم تظهر مَلَكَتُه ودقته في فهم الواقع المعرفي المحيط به .
لكن الواقع في المفهوم الفلسفي ليس محسومًا، بل تتنازعه المناهج المختلفة، فالمثالية الأفلاطونية ترى الواقع متمثلا في تحقيق وجود المثل خارج العقل البشري، وجعلها أصلا لوجود الأشياء المحسوسة، والمثالية الواقعية تفسير الواقع بتقرير أن للكليات وجودًا مستقلا عن الأشياء التي تمثلها، وهناك واقعيات أخرى بحسب الرؤى وطبيعة العلوم. (المعجم الفلسفي 2/552 )
وكل تلك الواقعيات المثالية زائفة، لا رصيد لها من الواقع الحقيقي، إذ غرقت في الصورية والمثالية، ومع ذلك تدَّعي الواقعية، كالمثالية «الفيثاغورية»، أو الأفلاطونية، أو الأرسطية، أو الصوفية، ولذلك جاءت واقعية ابن تيمية ردًّا على تلك الواقعيات الزائفة، إذ انطلقت من مبدأ استقلال الوجود عن إدراكنا، كما يُصرّح به في مواضع عدة من كتبه. (الرد على المنطقيين، ص 113، والدرء، 87/1، ومجموع الفتاوى 138/19).
لكنه لم يكن غارقا في واقعيته، بل كانت رؤيته الواقعية متوسطة بين المثالية الحالمة المنفكة عن الواقع الخارجي، والمادية التي لا ترى في الوجود سوى المادة وتجلياتها، ويظهر ذلك في توازنه بين الوجود الذهني والوجود الخارجي، وتلك قضية مركزية في فكره .
وإذا كانت واقعيته مُتَّزِنَة بين جمود الحواس وخيال العقل، فهي - أيضا - شاملة للواقع كله، لم تنحصر في الجانب الوجودي المادي، وإنما امتدت لتتناول الواقع الرمزي - كما أشرت إليه - فكانت واقعيته على نوعين :
الأول : الواقعية الحسية، ولها مجالان، وهما :
أ - مجال الشهادة، ومن خلال تلك الواقعية تضبط العلاقة بين الوجود الذهني والوجود الخارجي، وبسببها تُحَلُّ مشكلتا الكليات والاستقراء .
ب - مجال الغيب، وفي هذا المجال تتحدد العلاقة بين العقل والغيب وبسببها تحل مشكلة إمكان المعرفة الغيبية، التي استحال إمكانها بعض من الفلاسفة ؛ كالفيلسوف الألماني «كانت».
الثاني : الواقعية اللغوية الرمزية، ومجالها النصوص باعتبارها رموزا تدل على موجودات، إذ حقيقة اللغة أنها أداة اتصال بالرموز المنطوقة والمكتوبة، ومن خلال تلك الواقعية تحل مشكلة فهم النص، ومشكلة المعنى، ومن أهم معالم واقعية ابن تيمية الرمزية أو اللغوية «البحث عن مراد المتكلم»، ففيه الضمانة لاستقرار المعاني، ووضوحها، وحل مشكلاتها .
الـمفهوم الثالث : الوحدة المعرفية
ويمثل هذا المفهوم الخريطة الإدراكية لابن تيمية، التي ينظر من خلالها إلى المعرفة والوجود، على وفقها شَيَّد بناءه المعرفي وأكمله، ولا ريب أنه لا يمتلك ذاك المفهوم إلا العقول الواسعة المدارك الفسيحة الأفق، التي تتطلب وراء كل كثرة وحدة، وتحت كل اختلاف ائتلافا لا ترضى بالتفسيرات الجزئية، والتحليلات المبتسرة، ولا بن تيمية حظ وافر من تلك الصفات، كما يراه كل من تأمل منهجه العلمي ورؤاه المعرفية.
ويكاد يكون «مفهوم الوحدة المعرفية» ظاهرًا في كل ملمح من ملامح منهجه المعرفي، يتبدى في صور أعمها ما يراه من الانسجام الحاصل بين السنن الكونية والسنن الشرعية، ثم التكامل المعرفي، إما في طرق المعرفة، وإما في توافق الفطرة المعرفية مع الواقع الخلقي والديني والحسي، وإما في ائتلاف الفكر واللغة في بناء المعنى المتردَّد بينهما، وإما في تضافر المعرفة العلمية مع المعرفة العملية في بناء المعرفة البشرية... وهكذا يتجلى ذاك المفهوم في كثير من المواقف والصور المعرفية لدى ابن تيمية .
هيمن هذا المفهوم على فكره المعرفي، فكثيرا ما كان يُعلل مواقفه العلمية بأن: «دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تتناقض وتتعارض» (درء تعارض العقل والنقل 248/6) ، وفي سياق تعقيبه على نقض خصوم «الرازي» لحججه على إنكار علو الله يقول : «هذا الكلام مع أنه في غاية الإنصاف في المناظرة، ففيه كمال تحقيق الحقائق على ما هي عليه، وتبيين تطابق ما علم بالفطرة العقلية الضرورية، وبالحساب العقلي الهندسي، وما جاءت به الرسل، وكمال ما بعث الله به رسله من بيان أسمائه وصفاته، وهذا هو شأن الحق أن يتيقن ويتشابه ولا يختلف ...» (بیان تلبيس الجهمية 47/4 - 48) .
فمعيار تحقيق الحقائق : إدراك وحدتها، وإثبات انسجامها؛ لأن طبيعة «الحق الموجود والمقصود» - على حد تعبير ابن تيمية كما سنوضحه في محله إن شاء الله - طبيعة مؤتلفة مُتسقة، لا تقبل التنافر والتناقض الداخلي والخارجي، في إطار هذا المفهوم وأبعاده، ناقش أكبر المشكلات المعرفية، وهي مشكلة العلاقة بين العقل والنقل، التي أفرد لها مصنفًا كبيرًا أسماه «درء تعارض العقل والنقل» .
بهذا تميز منهج ابن تيمية المعرفي عن كثير من المناهج المعرفية، التي لم ترع مفهوم الوحدة المعرفية، فكانت على أنواع منها :
أولاً : مناهج تفترض التناقض المعرفي في سيرها العلمي، وتحاول تجاوزه، مثل منهج أصحاب المعارضة بين العقل والنقل، من المتكلمين قديما وحديثًا، وعامة الفكر الغربي الحديث، في مواقفه من علاقة العقل بالوحي الإلهي .
ثانيا : مناهج تُسلّم بالتناقض المعرفي، وتعجز عن حله إلا بالانسلاخ المعرفي، والتنقل من مرحلة فكرية إلى أخرى، مع ضريبة الحيرة والاضطراب، وذلك مثل ما وقع لـ«الغزالي»، وقريبا منه «الرازي» من نظار المتكلمين، وقريبا من ذلك «الفكر الحداثي» الذي ينتقل عبر منطق «التطور» من مرحلة إلى أخرى مع افتراض التناقض بينهما، وبناء الثانية على أطلال الأولى، ولذلك كان «الموت» شبحًا يطارد أفكارهم، فمن موت «الإله» إلى موت «المؤلف» إلى موت «النقد الأدبي» ... إلخ.
ثالثًا : مناهج تنطلق من فكرة التناقض الفلسفي، للوصول إلى الانسجام المعرفي، مثل بعض الفلسفات الغربية ؛ كفلسفة «هيجل».
رابعا : مناهج تغفل أو تتغافل عن ذاك المفهوم، إذ تغرق في التحليل ولا تستشعر علاقة الجزء بالكل، والواقع بالتصور، ولا تستطيع الموازنة بين تحليل المعلومات وتركيب النظريات، وتعجز عن التمييز بين الحقيقة التي يدركها الباحث من خلال تحليل أفرادها وإدراك وحدتها بتركيب آحادها ، وبين الحقائق المتمثلة في المعطيات المتناثرة التي لا رباط يربطها .
وإقصاء تلك المناهج مفهوم الوحدة المعرفية من فكرها، إما أن يكون إقصاء مقصودا، وذلك مثل المناهج الفلسفية العدمية، كــ «الفلسفة التفكيكية» (الفلسفة التفكيكية قراءة نقدية للنصوص، هدفها تقويض المعاني الثابتة وإيجاد شرخ بين ما يصرح به النص وما يخفيه، أسسها الفيلسوف جاك دريدا»، انظر: دليل الناقد الأدبي ميجان الرويلي ورفيقه، ص 107 - 111.) ، وإما أن يكون إقصاء غير مقصود، مثل مناهج كثير من أعلام الفكر والثقافة والشريعة.
خامسا: مناهج لا تكترث بالتناقض المعرفي والفلسفي، بل تعترف به وتبني عليه، مثل بعض المناهج الصوفية، التي تقر بتناقض الكشف مع صريح العقل وصحيح النقل (أشار ابن تيمية إلى ذلك التناقض المنهجي في مؤلفاته، مثل: الجواب الصحيح 186/3، ومجموع الفتاوى 338/3) ، ومثل المناهج الكنسية اللاهوتية، التي أوصلهم عجزهم عن حل مشكلة عقيدة التثليث إلى إقرار بعضهم بقبول التناقض في تلك العقيدة، وتعليل ذلك بأنها «فوق العقل» (انظر في نقد ابن تيمية لهم الجواب الصحيح 391/4)
سَلِم ابن تيمية من أوهام تلك المناهج، بسبب مفهوم «الوحدة المعرفية»، فقد ضمن له استقرارًا منهجيًا، فلم يعرف عنه تذبذبا أو اضطرابا أو انتقالاً منهجيًا، بل أورثه هذا المفهوم روية علمية، ميزته عن غيره؛ لأن إدراك الوحدة وحصول الانسجام المعرفي، يتطلبان مزيدًا من التفكير التأملي ، والرؤية الروية، وبذلك لم يكتف في تحليله المسائل العلمية بالرصد السريع، ولم يَسْتَأْسِر لمصطلحات وأسئلة خصومه في سياق نقاشهم، وله في ذلك نصائح للمناظرين (انظر على سبيل المثال در تعارض العقل والنقل، 296/1)، ولم تكن للوثوقية الزائفة، أو ما تسميه المعاجم الفلسفية بـ «الدوجماطقية» (الدوجماطقية تطلق منذ أيام الفيلسوف كانت على دلالة لا تخلو من تهكم، وهي إطلاقها على التسليم بالآراء دون تمحيص انظر: المعجم الفلسفي، صليبا 554/2). وجودٌ في قاموسه المنهجي، بل كان مهتما بفلسفة السؤال، مولعا بتحديد مفاصل المشكلات .
لماذا كانت تلك المفاهيم الثلاثة محددات للنسق المعرفي التيمي؟ وما براهينها وأدلتها ؟
كانت تلك الثلاثة المفاهيم مثارًا لتساؤلات واستشكالات وأبحاث كل من تعاطى مع «المعرفة البشرية» من النظار والفلاسفة قديمًا وحديثًا ؛ لأنها ترجمة صادقة لطبيعة «المعرفة البشرية»، التي تبدأ ذاتية، ثم تتفاعل مع الواقع، وتصطدم مع مشكلاته، وهي في حِرَاكِهَا تتطلب الانسجام بين معارفها وواقعها، وهذا التفاعل المعرفي بين الذات والخارج، وتطلب الانسجام تجلى في تلك المفاهيم الثلاثة، «المتمايزة» «المترابطة» «المتفاعلة» .
فمفهوم «الواقعية المعرفية» امتداد لمفهوم «الفطرة المعرفية»، فإذا كان الأول تأسيسيًا ، يُتَعرَّف من خلاله على الملكات والقدرات المعرفية الموهوبة للإنسان، وتكون المعارف لديه، فإن المفهوم الثاني - مفهوم الواقعية المعرفية- يعد تتميما لتأسيس ذلك البناء الفطري المعرفي؛ لأنه يُفعل مفهوم الفطرة، وما تَضَمَّنَه من القدرات المعرفية، والملكات الموهوبة للإنسان في فهم الواقع، فهو الجسر المعرفي بين الإنسان وما وهبه الله من معرفة فطرية، وبين الواقع والحقائق الوجودية، ويتمم هذا البناء إدراك وحدة الحقيقة المعرفية، التي تسوغ ذلك البناء، وتعزز تماسكه.
ولما كانت «الشريعة الإسلامية» متوافقة مع «الطبيعة البشرية»، رجعت تلك الثلاثة المفاهيم إلى طبيعة «المعرفة الإسلامية»، وخصائص الشريعة المحمدية؛ فالفطرة قاعدتها، والواقعية روحها، و«الوحدة» مقصدها و منطقها، بها استضاء ابن تيمية، واستلهم منها قوته المعرفية والمنهجية، من خلال استثمارها وتنميتها وتوظيفها في حياته العلمية، ولا غرو في ذلك، فإنه من عين «المعرفة الإسلامية» يصدر، وإليها يرد.
ومن خلال استقرائي تفاصيل فكر ابن تيمية، وإعمال منهجية التحليل والتركيب فيه، ظهر لي تحكم تلك الثلاثة المفاهيم بنسقه المعرفي الكلي، ومنهجه العلمي التفصيلي، إليها تعود مفاهيمه الفلسفية والمنطقية والفقهية، وبها يتلقى الحقائق المتنوعة ؛ كالحقائق الدينية، والحقائق الحسية، والحقائق العقلية والحقائق النفسية، وبان لي تميزه عن غيره بعنايته المنهجية بها .
ليس كل مفهوم بمعزل عن الآخر، بل إنها تتلاقى وتتضافر في تفسير الأبعاد الفلسفية والمنطقية عنده، فهي مترابطة ترابطا عضويا، كل مفهوم يستبطن الآخر في علاقة متداخلة، يمكن لهذا الترابط أن ينتهي في تفسير المنهج المعرفي عنده إلى الوحدة المعرفية، أو إلى الفطرة المعرفية، أو إلى الواقعية المعرفية، إذ لا يمتنع رَدُّ كل مفهوم إلى الآخر، كما سيتبدى ذلك في تضاعيف الدراسة .
لكن هذا التشابك والتداخل، لا يتعارض مع المنطق الداخلي الخاص بكل مفهوم، فإن الترابط بين هذه المفاهيم على مستوى تجلياتها في بنية الموضوع، لا يتناقض مع احتفاظ كُلِّ مفهوم بماهيته الخاصة، وعلاقاته الداخلية، ولذلك فقد ميَّرْتُ كُلَّ مفهوم عن الآخر، رغبة في إبراز وحدات المنهج الأساسية، والوصول إلى اكتشاف علاقاتها الداخلية، بما تشتمل عليه من إشكالات معرفية ومنهجية، ولأجل ذلك راعيت - في عرض تلك الإشكالات - تصنيفها حسب قوة علاقتها وانجذابها إلى كل مفهوم، فكل مفهوم تميز عن غيره بإشكالاته التي كانت مثار نقاش عند ابن تيمية .
وإذا نظرنا إلى دور تلك المفاهيم الكلية من زاوية وأُفُقِ أَوْسَع، نجدها قد نظمت العلاقة بين الأبعاد الفلسفية الكبرى، وهي: «الإنسان» و«الغيب» «والشهادة»، أو بعبارة أخرى: «العقل» و «الميتافيزيقا» (الميتافيزيقا ترجع في اشتقاقها الأصلي إلى كلمتين يونانيتين وهما: ميتا meta وتعني : بعد»، وفوزيقا» phusika وتعني : طبيعة وترجمتها الحرفية: «ما بعد الطبيعة انظر: مدخل إلى الميتافيزيقا ، عزمي إسلام، ص 7.) و «الطبيعة» أو «الواقع»، فمفهوم الفطرة المعرفية تناول الإنسان وعقله وقواه المعرفية ومفهوم الواقعية المعرفية حدد العلاقة بين الإنسان وعالمي الشهادة والغيب، و مفهوم الوحدة المعرفية» رَتَّبَ العلاقة بين تلك الأبعاد، لا سيما العلاقة بين الإنسان باعتبار عقله، وبين الوحي باعتباره غيبا.
تحمل تلك المفاهيم الثلاثة مسوغاتها وبراهينها في ذاتها، تتجلى في مضامين الدراسة عند شرحها وتحليلها، وأعظم براهينها ما سيراه القارئ الكريم من مدى انسجام تفاصيل فكر ابن تيمية معها، وما سيلاحظه من القوة التفسيرية لها، وإذا أردت أن أحاكمها محاكمةً علميةً صارمةً، فإنني سأجعلها «فَرْضًا علميا» ، ظهر لي صدقه بعد دراسته، وسبيل التحقق من «الفرضيات العلمية» ليس في مجرد تأييدها بالأمثلة المؤيدة، فإن مثل تلك العملية ليست بمأمن من الوقوع في الخداع النفسي، القائم على الانتقائية المذمومة» للأمثلة والأدلة والبراهين، ولكن معيار التحقق منها قابليتها للتكذيب لا للتصديق، فإن الفرضيات العلمية لا تكون جديرة بالقبول ما لم تكن قابلة للتكذيب، وما لم تصمد أمام الرياح العاتية لمحاولات تكذيبها ، بهذا المنطق العلمي الجديد الذي اكتشفه الفيلسوف «كارل بوبر»، وأحدث به ثورة نقدية، أرى صدق رؤيتي لها في دراستي فكر ابن تيمية، بعد تمحيصها بعرضها على ذلك المعيار، مهتما بكل مثال تتصور معارضته .
تلك المفاهيم الكلية الثلاثة، التي حَدَّدَت نَسَق ابن تيمية المعرفي، تتسم بوصفين، هما : الكلية والتجريدية، ومع كونهما وصفين مترابطين، فإن المراد بكليتها : انطباقها على عدد من المسائل والمواقف التي يجمعها قدر مشترك، والمراد بتجريدها تحررها من المكان والزمان، إذ لا وجود لها في واقع تراثه إلا في شكل جزئيات المواقف، وأفراد الإشارات، وأعيان المسائل.
لم ينص عليها إطارًا مرجعيا له، بل هي - بحسب قراءتي - كامنة وراء تفاصيل فكره، فمرجعيته المنهجية مختلطة بفكره وإجراءاته، وسبب ذلك تلاحم المنهج والموضوع، ووحدة النظرية والتطبيق في فكره، وتلك طبيعة الثقافة والعقلية الشرقية، كما يراه بعض الباحثين فليس للمنهج فيها استقلال عن الموضوع، بعكس ما هو مشاهد في الثقافة الغربية الحديثة، التي نشأت فيها المناهج منفصلة عن موضوعاتها، بل وأحيانًا معادية لها. (انظر: قضايا العلوم الإنسانية، إشكالية المنهج، إشراف يوسف زيدان، ص 45 - 46).
كل هذه المفاهيم المعرفية الكلية ترجع إلى مرجعية معرفية نهائية واحدة - كما أشرت إليه - وهو العلم الإلهي الذي جعله ابن تيمية أصل العلوم ومنبعها، بهذه المرجعية المعرفية النهائية التي تمثل الرؤية الوجودية العامة، تميز منهجه عن باقي المناهج المعرفية الفلسفية منها والكلامية،فالفطرة تقود إليه، والوحدة لا تتم إلا به، والواقعية تتصوره على حقيقته، وما يلي من هذا المدخل يدور على إبراز تلك المرجعية النهائية المعرفية والوجودية عند ابن تيمية.
انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.
انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.