main-logo

متخصصين في قطاع النشر والتوزيع ، من خلال توفير كل ما يلزم طالب المعرفة

سُلطة الأقران على الأفكار..!

بواسطة: مدونة نَشر 8 أبريل 2023
سُلطة الأقران على الأفكار..!


سُلطة الأقران على الأفكار!


د. عبدالرحمن الريس



لا يخفى على ذي لب وفهم وعلم ما للصديق من سطوة وقوة تأثير على مجمل الحياة وشؤونها فضلاً عن الأفكار والمعتقدات وتفاصيل الآراء وما يتعلق بها، ويمكن أن أبين فيما يلي بعض الجوانب التي تؤكد علاقة التأثير في كون الصداقة والقرب في المودة والتآلف أو عكس ذلك محركاً إلى الأفكار والمعتقدات والآراء:


1.  أن التأثير على الأفكار جزء لا يتجزأ من التأثير الأكبر على الجوانب الأخرى، فتأثير قرب الأشياء فضلاً عن الأشخاص فيما بينهم ملحوظ ومشاهد، وعلى ذلك لا يمكن استثناء التأثير الفكري أو فصله عن تأثير قرب الشخص من الآخر، فإذا كان التأثير بين الصديق وصديقه وبين القرناء على جوانب تتعلق بالنفس أو الحياة العملية وواقعية ملامسة هذا التأثير، فكيف بالجوانب الفكرية والعقدية التي تنمو وتتشكل وتتأثر بين القرناء وفي مجالسهم وما يرتادونه من أماكن ونزل.


"وقد قال الأوائل: الإنسان مدني بالطبع، وبيان هذا أنه لا بد له من الإعانة، والاستعانة، لأنه لا يكمل وحده لجميع مصالحه، ولا يستقل بجميع حوائجه، وهذا ظاهر، وإذا كان مدنياً بالطبع كما قيل فبالواجب ما يعرض في أضعاف ذلك من الأخذ، والعطاء، والمجاورة والمحاورة، والمخالطة والمعاشرة، ما يكون سببًا لانتشار الأمر"([1]).  


2.  أن ديمومة الأشياء وقربها مؤثرة في طبيعة الحال والأمر على ما يقربها ويدوم معها، فخاصيتي الديمومة والقرب من الصعب جدًا أن يهون المرء من قوة تأثيرهما إذا اجتمعا، فإذا كان قطر الماء دائمٌ -وإن قل- حَفرَ في الصخر الصلب ونكأ فيه من جراء قطراته المتتابعة والمستدامة، فكيف بأفهامٍ معنوية هي أوهن على كل حال من ذلك الصخر، ومدى تأثير ديمومة القرين على قرينه قرب منه أو بعد.


3.  التراث المعرفي الإنساني المؤكد لشأن محرك سلطة الأقران ومدى تأثيره على السلوك والأفكار، فالمطلع على التاريخ الإنساني بأكمله لن يجد حكيمًا أنكر تأثير القريب الدائم من البشر، أو استهان بمدى تأثيره على من استدام قرناءه، حتى الخطابات المنادية بالعزلة والانكفاء تنطلق من كون ديمومة القرناء فيه تأثير سلبي على الشخص المنكفئ على فكره وسلوكه.

فجملة من حديث الحكماء عن مكانة القرين وحسن اختيار الصديق وما إلى ذلك من أخلاقيات الصداقة والقرابة، انطلقت من استحضار حقيقة تأثير هذا العنصر الخارجي على المكونات الداخلية للإنسان، وكما قيل:

"عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي"([2])


وشواهد حضور محرك سلطة الأقران في فضاء الأفكار على صعيد التاريخ الإنساني والإسلامي متعددة وكثيرة، وقد يكون ذلك مباشرًا أو لا، وقد يكون سلبًا وفي أحايين أخرى إيجابا، ويمكن فيما يلي أذكر بعض الشواهد في كون سلطة الأقران وقوة من جالسوهم دفعتهم هذه السلطة إلى أفكارٍ وآراء ومعتقدات:


·      الموقف العقدي لعم رسول الله ﷺ أبوطالب حال وفاته، فالمتأمل لموقف عم رسول الله ﷺ من دعوة النبي ﷺ يجد أنه موقف دفاعي لفكرة الإسلام، فقد كان محركاً عن النبي ﷺ لذاته ولرسالته، ولا يمكن أن ينكر أي مسلم نصرته للنبي ﷺ وتصديقه لرسالته وكتابته للشعر في ذلك، إلا أن القارئ لاتساق هذا الموقف يستنكر غياب إسلامه ولحاقه بالإسلام، فما إن يفتش الباحث في مقولاته الفكرية ومواقفه العقدية حتى يدرك أن سلطة الأقران من قومه ومن حوله كانت هي الحيلولة التي وقفت بينه وبين تلك الخطوة المتسقة مع السياق الفكري والعقدي، فبعد أن أثبت أبو طالب لرسول الله ﷺ تصديقه في أبياته قال:

(لولا الملامة أو حذاري سبة ** لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً) ([3])


وقد روي في الصحيحين هذا المشهد الذي أوضح المحرك في عدم اتساق النصرة والتصديق مع عدم اللحاق بركب الإسلام فحين ((حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي ﷺ، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله عز وجل. فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يُكلمانه حتى كان آخر شي كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال له النبي ﷺ: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم([4])، ونزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ([5])))([6]).


فإشارة الحديث إلى إلحاح القرناء ممن كانوا حول عم رسول الله ﷺ وأنهم هم الذين ما زالوا به حتى عدلوه عن عرض رسول الله ﷺ له، أعظم شاهد على أن محرك فكرة الرفض الفكري وإقراره عدم الإسلام وإظهاره للموقف العقدي هو ليس تكذيبه للدعوة النبوية، ولا لخسارة دنيوية أو طلبًا لمكانة اجتماعية أو غيرها من الدوافع، بقدر ما هي تحقق سلطة الأقران وأثرها على الأفكار والآراء والمعتقدات.


يقول ابن القيم -رحمه الله-: "هذا وكم جلبت خطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية، وهل آفة الناس إلا الناس، وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء، لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد"([7]).



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الصداقة والصديق، تأليف: أبي حيان التوحيدي (310-414ه)، تحقيق: الدكتور إبراهيم الكيلاني، الناشر: دار الفكر المعاصر – بيروت، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثانية: 1996م، ص161.

([2]) ديوان طرفة بن العبد، تأليف: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد البكري، أبو عمرو الشاعر الجاهلي (564م)، تحقيق: مهدي محمد ناصر الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة: 1423ه – 2002م. ص32.

([3]) السيرة النبوية لابن هشام (2/101).

([4]) سورة التوبة آية 113.

([5]) سورة القصص آية 56.

([6]) أخرجه البخاري (4772)، ومسلم (24).

([7]) مدارج السالكين (1/453).




انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.




انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.