main-logo

متخصصين في قطاع النشر والتوزيع ، من خلال توفير كل ما يلزم طالب المعرفة

دلالة النصرة والعاقبة على النبوة

بواسطة: مدونة نَشر 11 مايو 2024
دلالة النصرة والعاقبة على النبوة

دلالة النصرة والعاقبة على النبوة


د.سعود بن عبدالعزيز العريفي




كثرت الإشارة في القرآن الكريم إلى دلالة النصرة والعاقبة، وجاء التنبيه إلى أن ما يُحس ويشاهد من اطراد العادة بأن ينصر الله تعالى أنبياءه ورسله، ويؤيدهم ويظهرهم على عدوهم بأنواع الظهور بالسنان وباللسان، ويجعل العاقبة دائما لهم ولأنصارهم وأتباعهم ولو بعد حين، أن هذا من أعظم الآيات الدالة على صدق هؤلاء الرسل، وأنهم لو كانوا يفترون على الله الكذب بدعوى النبوة والرسالة، لامتنع في حكمة الله تعالى أن يؤيدهم وينصرهم، على هذا الوجه المطرد، ولكان ذلك تلبيسا وإضلالا عاما للخلق، يتنزه عنه أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين .

ولا تقتصر هذه الدلالة على النصر الحسي المتمثل في نجاة الرسل وأتباعهم، وهلاك أعدائهم واستئصالهم، بل هي تشمل إلى جانب ذلك النصر المعنوي، وذلك بظهور حجج الرسل وبراهينهم الدالة على صدقهم؛ فإن هذا من أعظم أنواع النصر، كما تشمل إذلال أعداء الرسل والظهور عليهم وإن لم يستأصلوا، وهذا كحال المجاهد الذي هزم عدوه، والأول كحال المجاهد التي قتل عدوه (انظر النبوات لابن تيمية : ص 40 - 42).


ولا يعترض على هذا الدليل بأن الكفار قد يتسلطون، وتكون لهم الدولة في كثير من الأحيان، كما كان من شأن فرعون ونمرود وغيرهم من الملوك الكافرين، فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة والرسالة، فالاعتراض بمثلهم ليس واردا على هذا الدليل أصلا، أما من يدعي أن الله أرسله إلى الناس، وأمرهم بطاعته واتباعه، فإنه لا يخلو من حالين؛ إما أن يكون رسولا صادقا فينصره الله وأتباعه، ويجعل العاقبة لهم، وإما أن يكون كذابا مفتريا على الله تعالى فينتقم الله منه، ويقطع دابره. (انظر الجواب الصحيح لابن تيمية: 416/1، 417).


كما أن ظهور الكفار على المؤمنين أحيانًا هو بسبب ذنوبهم، ومخالفتهم لأنبيائهم، كما حصل للمسلمين في أحد، وهذا مما يزيد في الدلالة على صدق النبي ويؤيدها، حيث كان مدار النصر والظهور - كما يقول شيخ الإسلام - مع متابعة النبي وجودًا وعدمًا، من غير سبب يزاحم ذلك.. وهذا يوجب العلم بأن المدار علة للدائر، وقولنا من غير مزاحمة وصف آخر، يزيل النقوض الواردة، فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه ... وهذا يوجب العلم بنبوته ... وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانًا ؛ فإن أولئك لا يقول مطاعهم : إني نبي، ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين، ولا يطالبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم، بل قد يصرحون بأنا إنما نصرنا عليكم بذنوبكم، وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم، وأيضًا فلا عاقبة لهم، بل الله يهلك الظالم بالظالم، ثم يهلك الظالمين جميعًا، ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت، ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت، فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم وبين ظهور بعض الكفار على المؤمنين، أو ظهور بعضهم على بعض) (الجواب الصحيح : 416/6، 417 [بتصرف يسير]) .


كما لا يجوز أيضًا أن يعترض عليه بأن في الأنبياء من قتل، كما في قوله تعالى عن بني إسرائيل : «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِنَايَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ»ِ [البقرة: 61] وغيرها من الآيات، فإن حال هؤلاء - كما يقول شيخ الإسلام - كحال من يقتل من المؤمنين شهيدا في الجهاد، ومعلوم أن من كان هذا حاله فهو أكمل ممن يموت حتف أنفه، ثم إن القتل لا يتعارض مع حقيقة الانتصار والظهور، فإن الدين الذي قتل عليه الشهداء ينتصر ويظهر فتكون لأهله السعادة في الدارين من قتل كان شهيدًا، ومن عاش كان منصورًا سعيدًا، وهذا غاية ما يكون من النصر، كما قال تعالى : «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» [براءة : 52] ، فإذا كان هذا قتل المؤمنين، فما الظن بقتل الأنبياء، ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدارين ما هو من أعظم الفلاح) (الجواب الصحيح : 415/6 ، 426 [بتصرف]) 


وهذا النوع من الدلالة الشرعية هو في حقيقته قياس عقلي تمثيلي ؛ لأنه مبني على اعتبار الشيء بنظيره، والتسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى عند ذكر عاقبة الذين كفروا من أهل الكتاب وكيف أن الله تعالى أخرجهم من ديارهم، وأظهر نبيه عليهم : «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْخَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّا نِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَنَتَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَتَأْولِي الْأَبْصَارِ» [الحشر: 2]، وكما في قوله تعالى : «إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار»ِ [آل عمران : 13]، وذلك بعد قوله : «وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء»ُ ، وكما في قوله تعالى عن الرسل : «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب»ِ[يوسف: 111].


قال شيخ الإسلام : فالعبرة إنما تكون بالقياس والتمثيل .. فإذا عرفت قصص الأنبياء ومن اتبعهم ومن كذبهم، وأن متبعيهم كان لهم النجاة والعاقبة والنصر والسعادة، ولمكذبيهم الهلاك والبوار، جعل الأمر في المستقبل مثلما كان في الماضي، فعلم أن من صدقهم كان سعيدًا، ومن كذبهم كان شقيا ، وهذه سنة الله وعادته، ولهذا يقول سبحانه في تحقيق عادته وسنته، وأنه لا ينقضها ولا يبدلها : «أَكْفَارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَيْكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ » [القمر : 43] ، يقول : فإذا لم يكونوا خيرا منهم فكيف ينجون من العذاب مع مماثلتهم لهم ؟! هذا بطريق الاعتبار والقياس ، ثم قال : أَم لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ، أي : معكم خبر من الله بأنه لا يعذبكم؟ فنفى الدليلين العقلي والسمعي ) (النبوات ص 378، 379 بتصرف، وانظر: الفتاوى 332/3) .


ووجه الدلالة في هذا النوع من الدلائل على صدق الأنبياء ظاهر، حيث ارتبطت العاقبة بسببها المباشر وعلتها الظاهرة، فالنصر للأنبياء وأتباعهم بسبب صدقهم وإيمانهم، والهلاك للكافرين والانتقام منهم لكفرهم وعنادهم، فهذه الدلالة من جنس دلالة سائر الآيات والمعجزات على صدق الأنبياء، وكما قال شيخ الإسلام : (كون هذا فعل لأجل هذا وكون ذاك سبب هذا هو مما يعلم بالاضطرار عند تصور الأمر على ما هو عليه كانقلاب العصا حية عقب سؤال فرعون الآية، وانشقاق القمر عن سؤال مشركي مكة آية وأمثال ذلك ) (الجواب الصحيح : 393/6، وانظر منه : 419/6 - 421) .


بل إن الاستدلال بالعاقبة أبلغ في حصول المقصود من الاستدلال بالمعجزات، وذلك أن الأدلة نوعان :


1 - نوع يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه دون ترغيب ولا ترهيب فهو من جنس الخبر المجرد والمعجزات من هذا النوع، فهي تدل على صدق النبي، ثم يعلم بعد ما يخبر به النبي من الأمر والنهي، والوعد والوعيد.


2 - ونوع يدل على المراد مع الحض فيه أو الرهبة منه، فهو من جنس الحث والطلب والإرادة والأمر بالشيء والنهي عنه، ومن هذا إثبات نبوة الأنبياء بما فعل بهم وبأتباعهم من حسن العاقبة، وما فعل بمكذبيهم من ضد ذلك، وهذه الطريق أبلغ وأكمل، حيث تفيد العلم بصدقهم، وترغب في اتباعهم، وترهب من خلافهم (انظر: المرجع السابق : 426/6، 427).


ومما يؤكد هذا الارتباط والتلازم بين العاقبة وعلتها - والذي يمثل وجه الدلالة في هذا النوع من دلائل النبوة - ذلك التميز الموجود في عقوبة أعداء الرسل وإهلاكهم؛ فإنها تكون من جنس لا يعذب به إلا من كذب الرسل وذلك كتغريق فرعون وإهلاك قوم هود بالريح الصرصر العاتية، وقوم صالح بالصيحة، ونحو ذلك مما يسمى عذاب الاستئصال والله تعالى قد يميت الناس ويهلكهم بأنواع معتادة من البأس كأنواع الطواعين والأوبئة، لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل، أما ما عذب الله به مكذبي الرسل فهو خاص لهم،ولهذا كان من آيات الله الدالة على صدق أنبيائه (انظر النبوات لابن تيمية : ص 154).


ولعل مما يشهد لهذا قوله تعالى لبني إسرائيل لما سألوا عيسى الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء : «قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ » [المائدة: 115].


وأما طريق العلم بهذه الدلالة فإنه على ثلاث حالات (انظر : شرح الأصفهانية : ص 102 ، 103، والنبوات له: ص 163، 164) :

إما أن يكون بالبصر، أو بالسمع، أو بهما معا :فأما البصر والمشاهدة فلمن رأى وعاين بنفسه كيف نصر الله تعالى أنبياءه وأهلك أعداءه، وهذا كحال بني إسرائيل إذ قال الله لهم : «وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ » [البقرة : 50].

وكحال من رأى من أهل مكة وغيرهم ما أوقعه الله تعالى بأصحاب الفيل، ويلحق بهذا من رأى وشاهد آثار المهلكين ووقف عليها وأحسها، فإن حراسة الكعبة شهادة لملة إبراهيم، وإرهاص لمبعث خاتم المرسلين . - عليهما الصلاة والسلام ...


وأما طريق السمع فيكون بمعرفة الأخبار التي تفيد العلم؛ كتواتر الأخبار بقصة موسى مع فرعون، وقصة إبراهيم مع النمرود، وقصة نوح والطوفان، وأمثال ذلك من الأخبار المتواترة عند أهل الملل وغيرهم.


وأما اشتراك السمع والبصر معًا ، فكأن تشاهد آثار السابقين؛ كديار ثمود، ويُعلم بالخبر تفصيل ما حصل لهم، وكأن يُعتبر بما كان على مثال السابق، ويُعلم بالخبر ما في ذلك من الذكرى ؛ كحال سفينة نوح، التي قال الله فيها : «وَايَةٌ هُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ » [يس: 41 ، 42]، وقال تعالى : «إِنَّا لَمَّا طَعَا الْمَاءُ حَمَلْتَكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيهَا أَذُنٌ وَعِيَة» [الحاقة : 11 ، 12]، فإن مشاهدة السفن بعدها يذكر بها، وبما جرى من خبرها .


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول بأنهم رسل الله، وأن أقواما اتبعوهم، وأن أقوامًا خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم ؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها ، ونقل هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار ملوك الفرس والعرب في جاهليتها، وأخبار اليونان وعلماء الطب والنجوم والفلسفة اليونانية ... فكل عاقل يعلم أن نقل أخبار الأنبياء وأتباعهم ينقلها من أهل الملل من لا يحصى عدده إلا الله، ويدونونها في الكتب، وأهلها من أعظم الناس تدينا بوجوب الصدق وتحريم الكذب، ففي العادة المشتركة بينهم وبين سائر بني آدم ما يمنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، بل ما يمنع اتفاقهم على كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله) (شرح الأصفهانية : ص 103، وانظر: النبوات له: ص 37) .


ولظهور دلالة هذا النوع على النبوة لم يكن فضل من كان إيمانه صادرا من جهته كفضل من آمن بالرسالة قبل الظهور والنصرة؛ فإن هؤلاء قد استخدموا بصائرهم، وخضعوا للحق من أول أمره (انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 13/2) .


وإذ قد أبنا فيما سبق حقيقة هذا النوع من دلائل النبوة، ووجه دلالته عليها وطرق معرفته، وما قد يرد عليه من اعتراضات وتفنيدها، فلنلق نظرة فيما يلي على بعض الإشارات القرآنية إلى هذا الدليل :


1 - قال تعالى : «وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين» [آل عمران: 137] قال ابن القيم: (أي : قد كان من قبلكم أمم أمثالكم، فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيب بآيات الله ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعلة الجامعة : التكذيب، والحكم بالهلاك) (إعلام الموقعين : 181/1).

وقد جاء في هذه الآية الأمر بالسير في الأرض، وهذا يكون حسيا ومعنويا : حسيًا في حق من أراد معاينة ذلك، فإذا لم يكن يراه ببلده فليذهب لينظر إليه حيث كان، ومعنويا بالتأمل في أخبار من غبر، وتذكر آثارهم، والاعتبار مما يقوم بالقلب من مشاهد مصارعهم، وبقايا مساكنهم، كما قال تعالى: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون» [النمل: 52 ، 53] .


2 - قال تعالى : «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنِ مَكَّنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لم تُمَكِّن لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْتَهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ »[الأنعام: 6]، قال ابن القيم: (فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس، وهو ذنوبهم، فهم الأصل، ونحن الفرع والذنوب العلة الجامعة، والحكم : الهلاك، فهذا محض قياس العلة، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى، وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا، فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم) (إعلام الموقعين : 182/1) . 


3 - قال تعالى : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق» [فصلت: 53]، فقد ذكر المفسرون أن المراد بذلك ما كان من فتوح الإسلام الخارقة، وفسروا الآفاق بأنها بلاد العجم، وفسروا قوله تعالى : «وفي أَنفُسِهِم» بأن المراد بلاد العرب. (انظر: الكشاف : 395/3، وتفسير الطبري : 5/25) .


4 - قوله تعالى : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ» [الحاقة : 44 - 47] . وقوله تعالى : «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَاءِ اللَّهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَتِهِ» [الشورى : 24] .


وما في معناه من الآيات الدالة على أن الله تعالى ما كان لينصر نبيه ويؤيده بأنواع الظهور والتمكين لو كان متقولاً عليه مفتريا، وقد ذكر في الآية الأولى أنه لو تقول بعض الأقاويل لأهلكه، فكيف لو كان متقولا الرسالة كلها ؟ ! (انظر النبوات لابن تيمية : ص 345.)


قال ابن تيمية معلقا على الآية الثانية : (فمحوه للباطل وإحقاقه الحق خبر منه لا بد أن يفعله ... فإنه إذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق، إذ كانت آية له، ويبين بها الحق من الباطل، وهو أيضًا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته التي تكون بها الأشياء، فيحق الحق بما يظهره من الآيات، وما ينصر به أهل الحق كما تقدمت كلمته بذلك، كما قال : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ هُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا هُمُ الْغَالِبُونَ» الصافات: 171 - 173) (النبوات: ص 346.) . 


5- قال تعالى على لسان شعيب : «وَيَقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَافِي أَن يُصِيبَكُم مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنكُم ببعيد» [هود: 89]، ونحوه في قول مؤمن آل فرعون : «وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَنقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ» [غافر : 30، 31]، فهذا الخطاب وإن خرج مخرج الوعظ والتذكير، إلا أنه استدلال عقلي على صدق الأنبياء بدلالة العاقبة الحسنة لهم، والسيئة لأعدائهم، على نحو ما تقدم، وهو مع ذلك وجداني يحمل أسلوب الترغيب والترهيب .


6- قال تعالى : «وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ» الصافات: 133 ، 134، فإن جعل الإنجاء ظرفًا لكونه من المرسلين إشارة إلى ما في هذا الإنجاء من الدلالة على صدقه وتأييد الله له، قال ابن عاشور : (وإنما خص حين إنجائه بجعله ظرفًا للكون من المرسلين؛ لأن ذلك الوقت ظرف للأحوال الدالة على رسالته، إذ هي مماثلة لأحوال الرسل من قبل ومن بعد(التحرير والتنوير: 171/23)


7 - ومن لطيف الإشارات القرآنية إلى هذه الدلالة قول مؤمن آل فرعون عن موسى : «وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» [غافر : 28]. فكأنه قال لهم : (أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم) (معاني القرآن وإعرابه، للزجاج : 372/4) . ومفهوم ذلك أنه إذا أصابهم بعض ما يعدهم من الهلاك، كان برهانا على صدقه، فكيف إذا أصابهم كل ما يعدهم؟! وهو الواقع فعلا، كما علم من عاقبة فرعون وجنوده، قال تعالى : «فَأَخَذْنَهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ »[القصص : 40] . 


لكن ينبغي التنبيه هنا إلى أن هذه الدلالة العقلية إنما تمت بعد حصول التغريق لفرعون، وقبل ذلك كانت من مؤمن آل فرعون على سبيل الوعظ والجدل، أما البراهين التي احتج بها عليهم قبل ذلك - وهي آيات موسى - فقد نبه إليها بقوله: «وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَتِ مِن رَّبِّكُمْ» [غافر : 28].




انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.




انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.