main-logo

متخصصين في قطاع النشر والتوزيع ، من خلال توفير كل ما يلزم طالب المعرفة

تدوين الفصحى المعاصرة!

بواسطة: مدونة نَشر 18 فبراير 2023
تدوين الفصحى المعاصرة!


تدوين الفصحى المعاصرة!


للترجمان أحمد الغامدي



لمَّا عرف العلماء عظيم قدر الفصيحة، والمغبة التي لربما وقعت للمسلمين - من العرب خاصة- إذا تركوها إلى عامياتـهم، شدُّدوا في التدوين بالفصيح ولـم يروا إلا أن يُدوَّن بها وقاموا على من 

أراد لـهذه السنة تبديلًا. إلا أن بعضهم وقع فـي أمرٍ قريـبٍ من التدوين بالـعامية، بل لعله أشد، وهو التدوين بما تواضعوا على تسميته بـ (الفصحى المعاصرة).

وهم لما تساهلوا في هذه اللغة واحتجوا لها وقعوا في أمرٍ مثل التدوين بالعامية،وخيم العاقبة سيِّئ المغبة. وذلك أنهم لما منعوا التدوين بالعامية، فعلوا 

ذلك لعلتين، وهي: ألا ينقطع اتصال المسلمين بكتاب ربهم وكلام نبيهم، وأن تكون الأمة جسدًا واحدًا لها لسانٌ واحد، يُفهِم به المتقدمُ المتأخرَ، والـمشرقيُّ الـمغربيَّ.


ومثل هذه المقاصد لا تتحصل في (الفصحى المعاصرة)، فليست تصل بيننا وبين كتاب الله وسنة نبيه، وليست تصل بيننا وبيـن من خلا قـبلنا. بل إن هـذه 

اللغة إذا ترسخت في النفس كانت حجابًا بين المرء وبين كلام الله وكلام نبيه وكلام سلفنا. وإن كثيرًا من أهل زماننا ممن يرطن بــ (الفصحى المعاصرة)

ويتشدق بها لو قرأ كلام القدماء لاستبهم عليه، ولو فهمه لرآه بعيدًا عن ذوقه واستثقله. وأذكر رجلًا من أهل الفصحى المعاصرة وأئمتها يقول:

إن كتابتنا لو عُرضت على الجاحظ لما فهمها إلا بتُرجمان، لتجدد اللغة وتوسعها. وقد أصاب فـي الشطر الأول من كلامه، فلو قرأ الأوائل

(الفصحى المعاصرة) لما فهموها، إلا أن هذا ليس لتوسع اللغة، بل لتحولها عن عروبيتها إلى عجمةٍ شديدة، وتفرنج بيِّن.


وهي تُوهم الناسَ أنها على سنن العرب، وما هي منها في شيء، فكانت بهذا الإيهام أسوأ مغبةً من التدوين بالعامية؛ لأن الناظر في العامية يعلم مباينتها للكلام الفصيح. أما (الفصحى المعاصرة)، فهي تلبس ثيابَ العرب وعمائمها لتوهم أنها عربية، فيركن إليها المرء، ويشرح لها صدره، وهي في حقيقتها منافقةٌ أعجميةٌ الباطن، ولهذا أسميتها العرنجية، لأنها لغةٌ عربية الظاهر إفرنجية الباطن.

وهذه العرنجية -كما ذكرتُ لك- حجابٌ بين الناس والكلام الفصيح، فإنك تجيء إلى شيءٍ كثيرٍ من القرآن والسنة فتجد الناس لا تفهمه إلا بأن يُبيَّن بلفظٍ أو عبارةٍ متفرنجة. وقد ادَّخرتُ الأمثلة والشواهد للباب الثالث، وأورد لك منها هناك شيئًا كثيرًا إن شاء الله.



ورأيت من الناس مَن يعلق استعمال (الفصحى المعاصرة) بمعانٍ غريبةٍ أخذوها من الأعاجم أصلًا، فيقولون نستعمل الفصحى لنحفظ (النسيج المجتمعي)، و(الهوية العربية)، و(التراث العربي) و(الثقافة القومية)، وغير ذلك من المعاني الغريبة. وهذا أمرٌ لا يُلتفت إليه، بل ضرره أشد من نفعه. فلو أراد العرب الاجتماع لما لزمهم أن يجتمعوا على لغة القرآن، ولكفاهم كدَّ التعلم أن يستعملوا ما يسمونه اللغة البيضاء، أو لربما اجتمعوا على كلام أهل قطرٍ بعينه يفهمه العرب كلهم، كعربية المصريين، أو استعملوا لغةً هجينة بين العربية والإنجليزية، أو غير ذلك من وجوه الاجتماع.


وأعجب من ذلك عندي من يعتني بكلام المتقدمين دراسةً وبحثًا وتحقيقًا، وهو يستعمل -مع ذلك- في تآليفه أساليب الإفرنج لا أساليب العرب الذين يتكلم عن لغتهم! وهؤلاء مثلهم كمثل من اعتنى باللسان اللاتيني واللسان اليوناني وما أشبهها من ألسنة الأولين، لا يقيم لها قدرًا إلا لأنها كلامٌ قديم و(تراث)، وحقها -عندهم- أن تلزم الأوراق ولا تغادرها. وكنت أعجب إذا رأيتُ ناسًا يستشهدون بشعر الفصحاء وكلامهم، ويذكرون كتبَهم وينقلون عنها، وهم أبعد الناس عن استعمال لغتهم، وأكره الناس لذكر إحيائها، حتى عرفتُ أن العربية عندهم إنما هي"ثقافة"، و"نسيج مجتمعي"، و"هوية عربية" وغير ذلك من المعاني الغريبة الإفرنجية. يذكرون شعرَ جريرٍ كما تذكر الإنجليز شعر شوسر(ت:804هـ)، ويذكرون نثر الجاحظَ كما تذكر الإنجليز وِكلِف(ت:786هـ)، شيءٌ قديم يتذاكرونه كتَذَاكُرِ الأساطير. 


ولو تواضع الناس على عربيةٍ يُقال فيها: (أنا أكون كثيرًا أفعل حبًّا لك في القلب خاصتي). لقبلوها، لأن عربية الأوائل لا تعنيهم إلا من حيث أنها تُراث وثقافة للأوائل، لاغير. ولكلِّ عصرٍ -عندهم- لغة وأسلوب وألفاظ. ولست أريد هؤلاء بكلامي، وليس لي عليهم سلطان، ولا أظن كلامي يعجبهم، وإنما أريد مَن رَفَعَ قدر العربية لأنها لغة القرآن، ومن أراد أن يصل بين الناس وكلام ربهم وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد ألا ينقطع السند بين المتقدم والمتأخر، وأن يفهم الآخِرُ كلام الأول، والله المستعان.



انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.





انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.