بهرجة العالم الحديث وهشاشة الجسد!
سَرتاج تِيمور دَمير
ترجمه عن التركية:
أحمد فهد يوسف
كانت الرشاقة في عصر رياضة النفس تشير إلى التأدب والكياسة، وإلى فنائية البشرة بدلًا من كونها مظهراً مُسَوّقًا، أما اليوم فقد حلّت النحافة محل الرشاقة، وباتت تشي بحرية صاحبها الذي اكتسبها، وبالثقة بالنفس وبمكانته الرفيعة. وحجاب التشبث بالجسدي الذي كان فيما مضى حبسًا للروح قد تطور اليوم إلى هوس لشدّ الجسم بما يوافق المقاسات المثالية، فالسمين قبيح وكسول وتافه القيمة، ولكن هذه القاعدة مرهونة بالوقت الحالي وهي عرضة للإلغاء في أية لحظة.
إن حالة السمنة التي تظهر بها الأرواح المُهَمَّشة في الأجساد التعيسة تصور لنا كيف أن المجتمع الحديث قائم على الإشباع القاتل[1]، ولكون السمنة تعبّر عن وزن زائد فهي ركيزة لرسم الخطوط التي تحدّد نموذج الجسد المثالي. لقد أنتجت الحداثةُ الفرد السمين ولعَنَته. إن السمين حتى لو أكل ما يعتبر ضروريًّا للحياة من وجهة نظر طبية؛ فهو يحيا مع الموت وجهًا لوجه، ولهذا السبب تُقدم الحمية الغذائية بوصفها ترياقًا للفناء:
"إن ما يحيط بالجسد من صحة، وحمية غذائية، وطرق علاج، وشباب ونعومة، وهوس بالذكورة والأنوثة، وأساليب للعناية بالجسد، وأنظمة وتجارب تنطوي على مجازفات، وخطاب الأماني المحيطة بالجسد؛ كل هذا يشهد على صيرورة الجسد إلى وسيلة للخلاص في وقتنا الراهن. وبهذه المهمة الأخلاقية والإيديولوجية فقد حلّ الجسد حرفيًّا محلّ الروح"[2].
إن أول وأهم واجب يقع على عاتق الفرد المعاصر الجديد هو أن يكرس إمكانياته المادية وطاقته ووقته في سبيل المُثُل الجسدية، وأن يجعل من جسده طريقًا إلى نيل الحرية، ويحوّله إلى نموذج قابل للتصميم والمشاركة.
هذه الحال التي تحيل كل ركن من أركان الحياة إلى معرض للجسد؛ تخلق أفرادًا متطابقين بفعل رغبتهم وسعيهم للظهور، وبتركيزهم على أجسادهم، حيث يأكلون في مواعيد حُددت مسبقًا، أطعمةً حُسبت سعراتها الحرارية بدقة، ثم يمشون على جهاز المشي وتقاس أوزانهم، ثم يتقمصون حالات مزاجية بناء على التقدم الذي يحرزونه، وهنا يتجاوز الميزان دوره المتمثل في كونه أداة بسيطة لوزن الجسم ليصبح مقياسًا للسعادة. سرعان ما يلاحظ الأفراد ومراقبو الوزن (Weight Watchers) زيادة الوزن عن حدّ معايير الجسم المثالية، إذ إن كل زيادة تعدّ وصمة عار في المجتمع، ووفقًا لباومان، فإن هؤلاء المراقبين الذين هم أجزاء صغيرة مقارنة بالكل، يغنّون نفس الأغنية وبنبرة موحّدة كأنهم جوقة أحادية الصوت[3]، إنهم أشبه بنُسّاك يتبعون دينًا واحدًا ويمارسون عبادات مشتركة -طقوس التخسيس ورفع المعنويات- على أرضية مشتركة، ويقدمون فروض الولاء لقوائم الطعام والبرامج المقدمة لهم بتسليم وخضوع كاملين، إنهم لا يجتمعون ليأكلوا، بل لكيلا يأكلوا.
والحال أن الأكل كان في أزمنة سابقة حاملًا لمعانٍ وتلميحات عن الجماعة، لا مجرد عادة أو عمل اعتباطي، فقد كان سعيًا للاندماج في الحياة الاجتماعية، وتعويضًا عن الساعات التي قضاها [الفرد] بمعزلٍ عنها، ولكن فردانية الثقافة المعاصرة أنشأت فجوات انقسام وانفصال وانعزال[4]. إن نمط الأكل هذا الذي يطابقه سوء التفاهم الجمعي قد رافقه ذلك التفادي فيما بعد حتى إلى الموائد، ثم الغرف، والآن في البيوت. وعلى الرغم من أي استراتيجية منكبّة على الجسد تدفع إلى التأمل في المحيط والعيش طبقًا له إلا أنه يعزل صاحبه في التوجه الجسدي، والجسد مائل إلى أن يقوي مركزيته بازدياد بالنسبة لإحساس الفرد بالهوية[5].
إن الحياة اليوم لم تعد نشاطًا لأجل الجسد أو ضده فحسب؛ بل صارت داخله ومعه، ويتزامن هذا الانقلاب مع خطاب الحرية المعاصر الذي يتجاهل كل ما سواه من قيم وأحوال، والحرية -كما الجسد اليوم- ليست سوى حالة من شرود لا مسار لها، ولا كناية مضادة (counter-metaphor)[6]، وقد تُرك زمامها بيدها تبتلع كل شيء بداخلها في أقصى درجات السطحية. إن الجسد الذي خرج عن كونه وسيلة للتربية الروحية إلى التعبير عن الرضا النفسي، قد أحاط بكل معايير واحتياجات العالم الميتافيزيقي.
يلخص الجسد هشاشة واضطراب العالم الحديث وبَهرجته الجاذبة، وهذا الطرح يوضح أن العالم خارج الجسد في تضاؤل مطّرد، وبالنسبة لمن يقاومه فإن مساحة عيشه تضيق عليه يومًا بعد يوم.
إن أكثر المفارقات سخرية حول إعفاء الجسد من كل أشكال القيود بغية الوصول إلى الحرية؛ هو اختزال هذه الحرية في صورة الجسد العاري، وهذه المفارقة تتضمن فكرة أن المطالبة بحرية الجسد يمكن التعبير عنها بالعريّ، بمعنى أن التعبير عن الحرية يعوزه الإسفار عن البَشَرَة. يتجلّى هذا السلوك الخلاعي -الذي حلّ محل الأدب والبلاغة- في عدد لا يحصى من المهرجانات وفعاليات التمرد التي تتناول فيها مواضيع الجسد والحرية، ولكن الجسد المتكيّف مع الإسفار يُمحى كلما رُئِي؛ لأن التجدّد المستمر للعريّ الذي بات رمزًا سيميائيًا، يهوي بالجسد في حضيض من الوهم المستهلك. يمكن تشبيه هذا السفور الفاضح بالصيحات غير المفهومة لشخص ليس لديه ما ينطق به من كلمات تعبر عما بداخله؛ كلما علا صوته زاد إبهامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] Jean Baudrillard, Symbolic Exchange and Death, Sage Publications, 1993, p. 32. (Simgesel Değiş Tokuş ve Ölüm, Boğaziçi Yay., 2016)
[2] Jean Baudrillard, The Consumer Society: Myths and Structures, Sage Publications, 2004, p. 105. (Tü Toplumu, Ayrıntı Yay., 2017)
[3]Zygmunt Bauman, In search of politics. Polity Press, 1999, p. 46. (Siyaset Arayışı, Metis Yay., 2013)
[4] كلمة " gettolaşmışانعزال" جاءت في الأصل مشتقة من كلمة (getto) وتعني مناطق أو أحياء فصل عنصري في المدن، وكانت في الأساس تشير إلى حارات اليهود في بعض أنحاء أوروبا. (المترجم).
[5] 7 Chris Shilling, The Body and Social Theory. London, Sage Publications, 1993, p. 1
[6] أي إن مقولات الحرية والجسد لم تعد ردة فعل على خطاب سائد مضاد، بل شطحت وصارت تعبر عن شرود بدون لجام يربطها، بمعنى: أنها أفكار لم يعد لها "آخر" مضاد لها تتحدد معالمها نسبة له، بل صارت فوضى تضم الشيء ونقيضه. كما أفادنا الأستاذ مصطفى هندي. (المحرر).
انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.
انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.