أصول الفقه وأثره في البناء الفقهي
د.بدر بن محمد الدويش
علم أصول الفقه من العلوم المؤثّرة بشكلٍ كبيرٍ في بناء الملكة لدى الفقيه، بل قد يكون من أكثرها فائدةً في تحصيل المهارة والملكة الفقهيّة، وقد خصّه ابن خلدون r في مقدّمته بالثناء قبل أن يذكر تعريفه فقال: "اعلم أنّ أصول الفقه مِن أعظم العلوم الشرعيّة وأجلّها قدراً وأكثرها فائدة"([1])، في حين أنّه كان يدخل في تعاريف العلوم الأخرى مباشرة.
وكان قد أشار إلى وظيفة هذا العلم حين قال: "لا بُدّ في استنباط هذه الأحكام مِن أصولها من وجهٍ قانونيٍّ يُفيد العلم بكيفيّة هذا الاستنباط، وهذا هو أصول الفقه"([2]).
والشافعي حين صنف الرسالة كان من أهمّ مقاصده من تأليفها: ضبطُ عملية الاجتهاد، ووضعُ القوانين التي تنظّم النظر في الأدلّة بهدف استنباط الأحكام.
فصارت قواعد هذا العلم هي الأساس الذي يُعتمد عليه في الاجتهاد، ولهذا يقول ابن دقيق العيد r: "أصول الفقه هو الذي يقضي ولا يقضى عليه"([3]).
ويعود السرّ في هذا إلى أنّ أصول الفقه هو العلم الذي يؤسّس لاستعمال العقل في الشرع، أو لنقل باللغة الشائعة: هو القانون الذي ينظّم استثمار العقول في قضايا الشرع([4]).
يقول الغزالي r: "وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنّه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواءَ السبيل، فلا هو تصرّف بمحض العقول بحيث لا يتلقّاه الشرع بالقبول، ولا هو مبنيّ على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد"([5]).
ويقول الشوكاني: "فإنّ علم أصول الفقه لَمّا كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يُلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة وقواعده المحررة تُؤخذ مسلّمة عند كثيرٍ من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين وتصنيف المصنفين، فإنّ أحدهم إذا استشهد لِمَا قاله بكلمةٍ من كلام أهل الأصول أذعن له المنازعون، وإنْ كانوا من الفحول؛ لاعتقادهم أنّ مسائل هذا الفنّ قواعدُ مؤسَّسةٌ على الحقّ الحقيق بالقبول، مربوطةٌ بأدلّةٍ علميّةٍ من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيءٍ منها أيدي الفحول، وإن تبالغت في الطول"([6]).
قد يظهر للقارئ لهذا النصّ أنّ فيه مبالغةً، لكنّ الأمر ليس كذلك، فكلام الشوكاني هذا ليس فيه أدنى مبالغة؛ لأنّه يعنى به تلك القواعد السمعيّة والعقليّة واللغويّة المجرّدة التي استنفر الأصوليون فيها عقولهم، واستنفذوا أوقاتهم، ومداد كلماتهم، لضبطها وتأصيلها، حتى غدت من المسلّمات القطعّية، وهذا هو شأن العلوم التي تُعنى بفلسفة الديانات وأصول التشريعات، كأصول القانون مثلاً([7]).
ولأجل هذا المعنى فإنّ العلم بأصول الفقه، وارتياد كتبه، والإلمام بمسائله يُضفي على طالب العلم تميزاً ظاهراً في كلّ ما يطرحه مشافهةً، أو كتابةً في المنهج والمضمون. وينمّي لديه الملكة الفقهية، ويُكسبه المهارة بامتيازٍ، ومنها مهارة التصوير الفقهي.
ويمكن القول: بأنّ المعرفة بأصول الفقه تُسهم بشكلٍ جوهريٍّ في تكوين العقل المبدع المتمكن من سَعَة النظر، والتركيب، والتحليل، والمقارنة، وإدراك المعاني الجامعة، والإحاطة بالكليات والمقاصد، وهذا العقلُ ييسّر على صاحبه تصويرَ المسائل والنوازل وملاحظةَ الأشباه والنظائر، ومعرفةَ الفروق والخصائص، ويجعله مِن أقدر الناس على تطبيق القواعد، وتحقيق المناط، ورد الفروع إلى الأصول، وتخريج أحكام الحوادث الجديدة.
وهذا من أبرز مظاهر التفكير الفلسفي عند الشافعي التي تتمثّل بالعناية بضبط الفروع والجزئيّات بقواعد عامّة، واعتماد الاتجاه المنطقي في البدء بالحدود والتعاريف، ثمّ الأخذ بالتقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكلّ قسمٍ، ومنها أسلوبه الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، حتى لتكاد تحسبه -لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام المنطقي- حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً، وبالذات، واتّصاله بأمور شرعيّة خالصة([8]).
والقواعد الأصولية تُعدُّ قواعدَ إجرائيّةً للاجتهاد الفقهيّ؛ للتعامل مع الدليل وما ينتج عنه من مدلولات وأحكام، لذا فإنّ الفقيه كما يفتقر لها في الاستنباط من النص، فكذلك حاجته قائمةٌ في حال تفسير تصوير المسائل وتفسير النصوص وتحليلها، وهذا قدْرٌ مشتركٌ بين قواعد الاستنباط وأدوات التصوير الفقهي.
وأختم الحديث عن أهمية هذا العلم لمن يمارس التصوير الفقهي: بأنّ أصول الفقه لها أثرٌ كبيرٌ وظاهرٌ في تحقيق التميّز والدقة في التعبير عن المراد، حيث إنّ أصول الفقه يكسب الباحث ملكةَ الدقة في التعبير عن مراده، والتميّزَ في صياغة المادة العلميّة بالأسلوب العلمي الصحيح والمباشر، من دون مبالغة، أو إجمال، أو إبهام؛ وذلك لأنّ الأصوليّين من أبرع الناس في هذا الجانب، فلا يخفي على المنصف ذلك الجهد الجبّار الذي بذله علماءُ هذا الفنّ في ضبط المصطلحات المتعلّقة بالأحكام، والأدلة، والدلالات، والتمييز بين حقائقها بالحدود، والأمثلة، والفروق، وتحرير محلّ النزاع في المشكل والملتبس منها([9]).
_____________
([1]) مقدمة ابن خلدون (1/573).
([2]) مقدمة ابن خلدون (1/550).
([3]) نقله الزركشي عنه في البحر المحيط (1/5).
([4]) ينظر: أثر علم أصول الفقه في التميز في الدراسات المعاصرة، للدكتور أحمد الضويحي (ص3).
([5]) المستصفى للغزالي (1/4).
([6]) إرشاد الفحول للشوكاني (1/15).
([7]) ينظر: أثر علم أصول الفقه في التميز في الدراسات المعاصرة، للدكتور أحمد الضويحي (ص4).
([8]) ينظر: أثر علم أصول الفقه في التميز في الدراسات المعاصرة، للدكتور أحمد الضويحي (ص4).
([9]) ينظر: أثر علم أصول الفقه في التميز في الدراسات المعاصرة، للدكتور أحمد الضويحي (ص6).
انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.
انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.
