main-logo

متخصصين في قطاع النشر والتوزيع ، من خلال توفير كل ما يلزم طالب المعرفة

اللذات حين تكون جسراً للمقاصد الحسنة.

بواسطة: مدونة نَشر 4 أبريل 2023
اللذات حين تكون جسراً للمقاصد الحسنة.

اللذات حين تكون جسراً للمقاصد الحسنة


د. حامد بن أحمد الإقبالي



احتساب الغرائز .. اللّذات حين تكون جسراً للمقاصد الحسنة 


 اللذّات الحسيّة التي تنتج عن الغريزة النفسية لا تُذم ولا تمدح لنفسها ، لأنها ليست كمالاً يسعى كل أحد في تحصيله ، كما أنها ليست منقصة يتبرأ منها، إنما هي ضمن تكليف الإباحة المسموح به في حدود الضوابط والمعالم التي حددها أهل العلم ، وهي خلافاً للذة العقلية التي يكتسبها الإنسان بطلب العلم والحكمة ، فهذه أشرف لذة إن كانت في سبيل رضا الله ، ومحبته والأنس به .


 لكن هذه اللذّات كالأكل والشرب والنكاح ، يتغيّر حكمها وجزاءها إن كانت نيّة صاحبها طلب المثوبة والأجر من الله عز وجل، فتصبح كأنها عمل صالح في حكم الشريعة ، وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "وفي بُضْعِ أحدكم صدقةً، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ"([1]) فالمرء متى عمل شيئاً أصله على الإباحة ، وقصد به وجه الله تعالى والتقرّب به إليه ، فإنه يثاب على ذلك ، فالاستمتاع بالزوجة سواء كان بقصد إبعاد نفسه عن المحرمات أو قضاء واجبها ، دخل به صاحبه إلى الطاعات المرغوبة ، وكان أهل العلم يحبّون أن تكون لهم نيّة في كل شيء حتى في الأكل.


يقول النووي وفقاً لهذا المبدأ " الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه وذلك كالأكل بنيّة التقوي على طاعة الله تعالى والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً ([2]) بل ذهب بعض العلماء إلى أن ظاهر هذا الحديث يفيد حصول الأجر في إتيان المرء زوجته حتى من غير استحضار النيّة، ويقيسون ذلك بالزّارع في الأرض التي يحرث ويبذر فيها ، فينال بذلك أجور البشر والحيوانات والطيور التي تأكل منه.


 فالمباح إذاً لا بد أن يكون منتهى غايته طاعة الله سبحانه وتعالى – إن كان يتوسل بها للثواب- حتى تكون محبوباته ومراداته تبعاً لمحبوبات ومراد خالقه عز وجل، يقول ابن تيمية " وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه وإما أن يقصد لغيره، فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئاً سواه وهو أحب إليه من كل ما سواه؛ فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله ، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة"([3]) وقد جاء الحديث الشريف ليؤكد هذه القاعدة "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة" ([4]) بحيث ينوي بهذا العمل التزود بالأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى ، فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلاً ، ومن صور الاحتساب استحضار مسؤوليته عن أسرته في قرارة نفسه ، كما قرر النووي : أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته([5]) وقد علّل ابن تيمية حصول أجر نفقة المرء على نفسه وعياله - وأنها أفضل من نفقته على من لا تلزمه نفقته - بأنّ ذلك واجب، وما تقرّب العباد إلى الله بمثل أداء ما اُفترض عليهم ([6]) فأصبح أداء الواجبات واتّباع الأوامر الشرعية بذلك أكثر ثواباً من إتيان المستحبات والمندوبات.


    وتتفاوت درجات النيّة الأخلاقية انحطاطا وعلوّاً بحسب التعامل القلبي والعملي مع ملذّات الحياة ومنافعها ، فقد تنخفض إلى دركات البهائم وذلك للمكبّ على الملذات ، يدفع ذلك غريزته المجردة ونفسه الأمارة بالسوء ، وقد تصل الى حالة الذروة الأخلاقية التي كان يقف على رأسها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك تعامله مع المال الذي تعتبره العرب عديل الرّوح لأنه بها قوامها، فإنه لم يُسأل صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا أعطاه "ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلِموا فإن محمداً يعطي من لا يخشى الفاقة"([7]) ويأتي بعد الأول مكرمة : صاحب الجهد الحسن المُكره ، ولولا هذه المشقة وهذا المنع لارتقى ذروة الأخلاق (وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة :54) ثم يأتي الثالث : صاحب الجهد الحسن الذي انبعث من طبعه النفسي لا الاعتبار الاخلاقي ، ثم يأتي بعده صاحب الموقف السطحي الذي يعمل وفقاً لهواه المستنير الخاضع للعقل ، أما (أدنى درجات السلم) فيأتي صاحب الكسب المادي الذي لا يعتد بأي معنًى أخلاقي ،وغايته اليتيمة أن يتمتع متاعًا حسنًا بالحياة سواء باللعب أو الأكل "([8]) فتأملّ كيف تفاوتت الدرجات وفقاً لكل سلوك ، فكلما تغلّب الانسان على هواه ، وغلب شيطانه ، وكان مراده تبعاً للإرادة الشرعية يسير معها ويتوقف معها ، كلما كانت رتبته أشرف وحاله أفضل ، وتظل الدرجات تهبط حتى لا يبقى من الإرادة مثال حبة خردل من الخير.


ولا مشاحة إن وافقت حظوظ النفس دواعي الحق كما يحدث في اللذّات المباحة ، فليس بالضرورة أن تكون حظوظ النفس متهمة في كل أحوالها فربما وافقت أحياناً الأمر الشرعي ، ولذلك جعلها بعض العلماء في حكم المقبول ،وأن فاعلها يجازى عليها بالأجر من الله سبحانه وتعالى ، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك"[9]) يقول ابن حجر "إن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه لأن وضع اللقمة في فم زوجته يقع غالبا في حالة المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجد القصد إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله"([10]) فكانت مقدمة هذه الشهوة أو المحبة من الملاعية والمداعبة تحمل في ثناياها استحساناً من الشرع وثواباً عليها طالما كانت في إطار تلمّس القبول والرضا الإلهي ، وهذا يؤكد أن الامتثال لدواعي الغريزة من خلال التكليف الأخلاقي يؤدي قطعاً إلى النية الصالحة.


 فطلب الثمرة العاجلة الدنيوية والنظر اليها لا يتعارض مع حسن النية ، وقد جاء التكليف بأن المؤمن مطالب بأن يتتبع مقاصد الشارع من المصالح، لكنه لم يمنعه من التطلع إلى الخير المترتب على هذه الأفعال المتعبد بها ، يقول عمر الاشقر " إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف لأنها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره، ويحفظ عليه دنياه وأخراه، ويحسن أن نقرر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها -سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات مُتعبد بها- لا يضاد الإخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال"([11]).


ومعنى ذلك أن الثّمرة التي يحصّلها الإنسان من جرّاء نزوعه إلى هذا المقصد لا بأس بها ، ولا تتعارض مع المقصد الأهم ، ومثال ذلك : أن تكون صلة الفقير وبرّ الوالدين محبة وجدانية ، ومساعدة المحتاج فطرة خلقية، فهذه متعلّقات لهذه الأعمال ولا تتقاطع مع مقصدها الأعظم وهو التقرّب إلى الله وامتثال أمره ، والذي يسعى إليه المسلم هي المقاصد المأمور بها وليس الآثار التي يخلّفها وتنتج عنها ، أما إذا كان ينظر إلى ما يترتّب على عمله في الدنيا ، فإنه ينقص من أجره لكنه لا يُحبط تماماً.


[1] - صحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، رقم الحديث 1006.

[2] - النووي ، شرح مسلم ، 11/78.

[3] -ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، (7/43)

[4] - صحيح مسلم ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج ، رقم الحديث 1002

[5] - النووي ، شرح مسلم ، (7/89)

[6]- ‏ابن تيمية ، جواب الاعتراضات المصرية ، 94-95.

[7] - صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، رقم الحديث 2312.

[8] -دراز -488-493

[9] - صحيح مسلم ، 1911.

[10] - ابن حجر ، فتح الباري ، (1/ 137).

[11] - الاشقر ، مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، ص399.



انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.





انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.