العلاقة بين العلم التجريبي والدين
د.عبدالله بن حمد الركف
يشكِّل الدِّينُ والعلومُ التجريبية مظهرين من أهم المظاهر في الحياة من حولنا، ومع تقدُّم العلوم التجريبية -وهي: العلوم التي تسعى لاكتشاف القوانين الطبيعية، عن طريق التجربة والملاحظة، واعتماد الدليل المادي فقط- ظهرت بعض الآراء التي تقول بوجود نظرتين للعالم؛ الأولى: نظرة الدِّين للعالم، والأخرى: نظرة العلم التجريبي للعالم، ثم بُنِيَ على هذا التنظير أنّ الدِّين والعلمَ شيئان مختلفان، ثم قرَّر كلُّ فريق نظرته للعلاقة بينهما بحسب رؤيته لكل منهما، وحيث إنّ النظرة للعلم التجريبي تُعَدُّ سِمة بارزة في عصرنا؛ فقد توهم البعض أنّ المصدر الوحيد للمعرفة هو العلم التجريبي، وأغفل بقية المصادر، وقد تقدم معنا أنّ البناء المعرفي لا يكتمل إلا بالتوازن بين مصادر المعرفة، دون إغفال أو تهميش أيٍّ منها على حساب الآخر.
ويمكن حصر الأقوال في مسألة العلاقة بين العلم والدِّين فيما يأتي:
الأول: التمايز بين العلم والدِّين؛ بحيث يختص كلُّ واحد منهما بأمور لا تدخل في مجال اختصاص الآخر، فكل منهما مستقل عن الآخر في مستويات مختلفة.
الثاني: التناقض بين العلم والدِّين؛ بحيث يقع التعارض بينهما، فهما متعارضان.
الثالث: التكامل بين العلم والدِّين؛ بحيث يكون العلم مكمِّلًا للدِّين، فهما متفقان وإنْ توهم بعضهم التعارض.
والثالث هو الصحيح؛ لثلاثة أمور:
1- لا يمكن أن يتمايز العلم التجريبي عن الدِّين الحق؛ لأنّ من خصائص الدِّين الحقِّ أنْ تشمل تعاليمُه مطالبَ الدِّين والدنيا، فهو الحاكم على الجميع، والعلم التجريبي من مطالب الدنيا.
2- لا يمكن أنْ يتناقض العلم التجريبي مع الدِّين الحق؛ لأنّ الدِّين الحق وحيٌ من عند الله تعالى، والعلم التجريبي نظرٌ في الكون الذي خلقه الله، ويستحيل أنْ يتناقض كلامُ الله تعالى مع خلقه؛ فكلاهما من عند الله.
3- لا يعـني التكامل بين العلم والدِّين هنا أنّ العلم التجريـبي مستمد مباشرة من الدِّين؛ بل المقصود أنّ العلم محكوم بالدِّين لا يناقضه ولا يخرج عنه، بل الدِّين يحث عليه.
ماذا نصنع عندما نجد تعارضًا بين العلم التجريبي والدِّين؟
لا بد من التنبيه على أربعة أمور هنا:
1- الأمر الأول: لا بد من تحرير مفهوم «الدِّين، والعلم» الذي وقع توهُّم المعارضة بينهما؛ فالمقصود بالدِّين: هو الوحي كتابًا وسنة، وأما العلم فالمقصود به: المجالَ المادي القائم على المنهج التجريبي المعتمد على التجربة الحسِّية، وهدفه: التعرُّف إلى الطبيعة وقوانينها.
2- الأمر الثاني: أنّ كُلًّا من الدِّين والعلم التجريبي يتضمن مسائل جزئية ليست على درجة واحدة من القطع والقوة، بل هي متفاوتة في ذلك؛ فمنه هو قطعي في ثبوته أو دَلالته، ومنه ما هو دون ذلك، ومنه الظَّني الذي يمكن أنْ يقع الاختلافُ في ثبوته أو دَلالته.
فالنص القطعي الدَّلالة: هو ما دلَّ على معنًى متعيَّن يُفهم من النص، ولا يَحتمل معنًى آخر؛ مثل قوله تعالى: «وَلَكُم نِصفُ مَا تَرَكَ أَزوَ ٰجُكُم إِن لَّم یَكُن لَّهُنَّ وَلَد» [النساء: 12]، فهذا قطعيُّ الدَّلالة على أنّ فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير، أما النص الظَّني الدَّلالة: فهو ما دلَّ على معنى، ولكن يحتمل أن يُصرف عن هذا المعنى ويراد منه معنًى غيره؛ مثل قوله تعالى: «والمُطَلَّقَـٰتُ یَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوء» [البقرة: 228]،، فلفظ «القُرْء» في اللغة مشترك بين معنيين: إذ يُطلق على الطهر، ويُطلق على الحيض؛ وعليه فالنص يحتمل أنْ يكون المقصود به: ثلاثة أطهار، ويحتمل أنْ يكون: ثلاث حَيْضات، فهو ليس قطعيَّ الدَّلالة على معنى واحد من المعنيين؛ ولهذا اختلف العلماء في معناه.
ومثل هذا التفاوت واقعٌ في العلم التجريبي وأشد؛ فهناك: الآراء، والفرضيَّات، والنظريات، والنماذج التفسيرية، والحقائق العلمية؛ بل حتى الحقائق العلمية نجد لها تفسيرات مختلفة، والقطع في العلم التجريبي إنما يصح فيما كان قائمًا على المعطى الحسي القطعي الذي يصح أنْ يوصف بكونه حقيقة علمية قاطعة -والقطع هنا مستمد من الحس- وأما سعي الإنسان في تقديم نماذج تفسيرية لما يراه من ظواهر فهي دون ذلك في الرُّتبة، والعلم التـجريبي يصحِّح نفسه في هذه المجالات باستمرار.
3- الأمر الثالث: ينبغي أنْ نفرق بين: العلم الطبيعي التجريبي، وبين فلسفة العلم التجريبي؛ فالعلم التجريبي يكشف القوانين الطبيعية، في حين تمثل فلسفةُ العلم المواقف والآراء الشخصية التي تُبنى على هذه النظريات والمكتشفات، ومن ثَمَّ تُبنَى الرُّؤى والتصورات وهي تعتمد كثيرًا على الذاتية لا الموضوعية.
4- الأمر الرابع: أنّ طبيعة العِلم التجريبي في معظمها متغيِّرة، واستنتاجات البشر المبنية عليها تتغير حسب المعطيات والظروف والتجارب؛ فهي مهما بلغت ستظل في إطار الظن الغالب، وتاريخ العِلم يثبت بجلاء أنّ طبيعته تتجدد باستمرار، وأنها مُقارَبَات لا حتميَّة فيها.
بعد ذلك، نأتي للسؤال المحوري: هل يمكن أنْ يقع التعارض بين الوحي والعلم التجريبي، أم لا؟
أما التعارض بـين قطعيات الدِّين وقطعيات العلم التجريبي فلا يمكن أن يقع؛ لأن النقل وحيٌ من الله تعالى الذي خلق الكون بما فيه، وهو العليم سبحانه بتفاصيل أحوال العالَم وسُننه والخالق لها، فلا يمكن أنْ يأتي الوحي بما يخالف شيئًا من قطعيَّات العلم المستمدة من قوانين العالم؛ وذلك لكمال علم الله تعالى وحكمته.
أما إنْ وجد ما يوهم التعارض بينهما: فَمَرَدُّ ذلك لخللٍ في تصوُّر طبيعة الدِّين أو طبيعة العِلم؛ وهو ما يستدعي تدقيقًا فيهما، والتعرُّف إلى ما كان أقوى فيكون مقدَّمًا: فالنقل قد لا يكون صحيحًا من جهة الثبوت -مثل: الحديث الضعيف، أو الموضوع - أو لا يكون قطعيًّا من جهة الدَّلالة - أي: لا يكون النقل له معنًى واحد لا يحتمل غيره- فإذا كانت المعرفة العلمية قطعيةً هنا، كانت مقدَّمةً على هذا النقل ولا إشكال، والعكس بالعكس؛ فإذا كان النقل قطعيَّ الثبوت والدَّلالة، فلا بد أنّ الإشكال فيما يُدَّعى أنه حقيقةٌ علمية، أما إنْ كانت دلالة كل منهما ظنِّية، فإنه يتطلب حينها ما يرجِّح كِفَّة أحدهما على الآخر.
غير أنّ منشأ الإشكال هنا، عادة يبدأ من النَّزعة المُغالية في العلم التجريبي التي تحصر المعرفة في إطارها، وقد تقدم معنا أنّ مصادر المعرفة متعدِّدة، وحصرها في مصدر تجريبي فقط قد يُفضي بها إلى إنكار المعقولات الضرورية التـي مبناها على العقل، والأخبار اليقينية المبنيّ بعضُها على النقل، وإنكارها يُسبِّب انهيارَ المنظومات العلمية؛ لأنّ الاعتماد على المصدر التجريبي فقط قد يُلغي بقية المصادر الأخرى، التي لا يمكن لأيِّ منظومة معرفية -بل وحتى علمية- أنْ تقوم إلا على تكاملها.
والخلاصة التي ينبغي أنْ نعيها: أنّ معارضة الوحي بالعلوم التجريبية إنما ينشأ من سوء فهم للوحي، أو سوء فهم للعلم، وعلينا معرفةُ المنهجية الشرعية الصحيحة في العلاقة بينهما، وأنها متى طُبِّقت على نحو سليم؛ انزاحت كافة الإشكالات المتعلقة بهذا الباب.
انقر هنا للوصول إلى صفحة الكتاب كاملاً.
انقر على الصورة للوصول إلى النسخة المصورة (pdf) قابلة للتحميل والنشر.